فصل: باب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الهدية للمشركين، وقول الله تعالى‏:‏ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏)‏ ساق إلى آخر الآية، وهي رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق الباقون إلى قوله‏:‏ ‏(‏وتقسطوا إليهم‏)‏ ، والمراد منها بيان من يجوز بره منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتا ونفيا ليس على الإطلاق، ومن هذه المادة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، ويصاحبهما في الدنيا معروفا‏)‏ الآية، ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله‏)‏ الآية، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ فَقَالَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في حلة عطارد وقد سبق قريبا، والغرض منه قوله‏:‏ ‏"‏ فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم ‏"‏ واسم هذا الأخ عثمان بن حكيم وكان أخا عمر من أمه، أمهما خيثمة بنت هشام بن المغيرة، وهي بنت عم أبي جهل بن هشام بن المغيرة‏.‏

وقال الدمياطي‏:‏ إنما كان عثمان بن حكيم أخا زيد بن الخطاب أخي عمر لأمه أمهما أسماء بنت وهب‏.‏

قلت‏:‏ إن ثبت احتمل أن تكون أسماء بنت وهب أرضعت عمر فيكون عثمان بن حكيم أخاه أيضا من الرضاعة كما هو أخو أخيه زيد من أمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ هو ابن عروة‏.‏

وفي رواية ابن عيينة الآتية في الأدب ‏"‏ أخبرني أبي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أسماء بنت أبي بكر‏)‏ في رواية ابن عيينة المذكورة ‏"‏ أخبرتني أسماء ‏"‏ كذا قال أكثر أصحاب هشام‏.‏

وقال بعض أصحاب ابن عيينة عنه ‏"‏ عن هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء ‏"‏ قال الدار قطني وهو خطأ‏.‏

قلت‏:‏ حكى أبو نعيم أن عمر بن علي المقدمي ويعقوب القارئ روياه عن هشام كذلك، فيحتمل أن يكونا محفوظين، ورواه أبو معاوية وعبد الحميد بن جعفر عن هشام فقالا‏:‏ ‏"‏ عن عروة عن عائشة ‏"‏ وكذا أخرجه ابن حبان من طريق الثوري عن هشام، والأول أشهر، قال البرقاني‏:‏ وهو أثبت ا هـ‏.‏

ولا يبعد أن يكون عند عروة عن أمه وخالته، فقد أخرجه ابن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير قال‏:‏ ‏"‏ قدمت قتيلة - بالقاف والمثناة مصغرة - بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حسل - بكسر الحاء وسكون السين المهملتين - على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الهدنة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا‏:‏ زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة‏:‏ سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لتدخلها ‏"‏ الحديث، وعرف منه تسمية أم أسماء وأنها أمها حقيقة، وأن من قال إنها أمها من الرضاعة فقد وهم، ووقع عند الزبير بن بكار أن اسمها قيلة، ورأيته في نسخة مجردة منه بسكون التحتانية وضبطه ابن ماكولا بسكون المثناة، فعلى هذا فمن قال قتيلة صغرها، قال الزبير‏:‏ أم أسماء وعبد الله ابني أبي بكر قيلة بنت عبد العزى، وساق نسبها إلى حسل بن عامر بن لؤي، وأما قول الداودي أن اسمها أم بكر فقد قال ابن التين لعله كنيتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قدمت علي أمي‏)‏ زاد الليث عن هشام كما سيأتي في الأدب ‏"‏ مع ابنها ‏"‏ وكذا في رواية حاتم بن إسماعيل عن هشام كما سيأتي في أواخر الجزية، وذكر الزبير أن اسم ابنها المذكور الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، ولم أر له ذكرا في الصحابة فكأنه مات مشركا، وذكر بعض شيوخنا أنه وقع في بعض النسخ ‏"‏ مع أبيها ‏"‏ بموحدة ثم تحتانية وهو تصحيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهي مشركة‏)‏ سأذكر ما قيل فيه إسلامها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية حاتم ‏"‏ في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح، وسيأتي بيانه في المغازي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ إن أمي قدمت وهي راغبة‏)‏ في رواية حاتم ‏"‏ فقالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة ‏"‏ ولمسلم من طريق عبد الله بن إدريس عن هشام ‏"‏ راغبة أو راهبة ‏"‏ بالشك، وللطبراني من طريق عبد الله بن إدريس المذكور ‏"‏ راغبة وراهبة ‏"‏ وفي حديث عائشة عند ابن حبان ‏"‏ جاءتني راغبة وراهبة ‏"‏ وهو يؤيد رواية الطبراني، والمعنى أنها قدمت طالبة في بر ابنتها لها خائفة من ردها إياها خائبة؛ هكذا فسره الجمهور، ونقل المستغفري أن بعضهم أوله فقال‏:‏ وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في الصحابة، ورده أبو موسى بأنه لم يقع في شيء من الروايات ما يدل على إسلامها، وقولها‏:‏ ‏"‏ راغبة ‏"‏ أي في شيء تأخذه وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماء في أن تصلها، ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن ا هـ‏.‏

وقيل معناه راغبة عن ديني أو راغبة في القرب مني ومجاورتي والتودد إلي، لأنها ابتدأت أسماء بالهدية التي أحضرتها، ورغبت منها في المكافأة، ولو حمل قوله‏:‏ ‏"‏ راغبة ‏"‏ أي في الإسلام لم يستلزم إسلامها، ووقع في رواية عيسى بن يونس عن هشام عند أبي داود والإسماعيلي ‏"‏ راغمة ‏"‏ بالميم أي كارهة للإسلام ولم تقدم مهاجرة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ قيل معناه هاربة من قومها، ورده بأنه لو كان كذلك لكان مراغمة، قال وكان أبو عمرو بن العلاء يفسر قوله‏:‏ ‏(‏مراغما‏)‏ بالخروج عن العدو على رغم أنفه فيحتمل أن يكون هذا كذلك، قال ‏"‏ وراغبة ‏"‏ بالموحدة أظهر في معنى الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلي أمك‏)‏ زاد في الأدب عقب حديثه عن الحميدي عن ابن عيينة‏:‏ قال ابن عيينة ‏"‏ فأنزل الله فيها‏:‏ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ‏"‏ وكذا وقع في آخر حديث عبد الله بن الزبير، ولعل ابن عيينة تلقاه منه، وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين شيء جانبا للمسلمين وأحسنه أخلاقا‏.‏

قلت‏:‏ ولا منافاة بينهما فإن السبب خاص واللفظ عام فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء‏.‏

وقيل نسخ ذلك آية الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا والله أعلم‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة، ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما ا هـ‏.‏

وفيه موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة، والسفر في زيارة القريب، وتحري أسماء في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير رضي الله عنهم‏.‏

*3*باب لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته‏)‏ كذا بت الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها، وتقدم في ‏"‏ باب الهبة للولد ‏"‏ أنه أشار في الترجمة إلى أن للوالد الرجوع فيما وهبه للولد، فيمكن أنه يرى صحة الرجوع له وإن كان حراما بغير عذر، واختلف السلف في أصل المسألة، وقد أشرنا إلى تفاصيل مذاهبهم في ‏"‏ باب الهبة للولد ‏"‏ ولا فرق في الحكم بين الهدنة والهبة، وأما الصدقة فاتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام‏)‏ هو الدستوائي ‏(‏وشعبة‏)‏ كذا أخرجه، وتابعه أبو قلابة عند أبي عوانة وأبو خليفة عند الإسماعيلي وعلي بن عبد العزيز عند البيهقي كلهم عن مسلم بن إبراهيم، ورواه أبو داود عن مسلم المذكور فقال‏:‏ ‏"‏ حدثنا شعبة وأبان وهمام ‏"‏ وتابع إسماعيل القاضي عن مسلم بن إبراهيم عند أبي نعيم فكأنه كان عند مسلم عن جماعة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس‏)‏ في رواية شهر عن شعبة ‏"‏ أخبرني قتادة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أنه سمع ابن عباس ‏"‏ أخرجه أحمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب ‏"‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العائد في هبته كالعائد في قيئه‏)‏ زاد أبو داود في آخره ‏"‏ قال همام قال قتادة‏:‏ ولا أعلم القيء إلا حراما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثني عبد الرحمن بن المبارك‏)‏ هو العيشي بتحتانية ومعجمة، بصري يكنى أبا بكر، وليس أخا لعبد الله بن المبارك المشهور، والإسناد كله بصريون إلا ابن عباس وعكرمة وقد سكناها مدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس لنا مثل السوء‏)‏ أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏(‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء، ولله المثل الأعلى‏)‏ ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلا‏:‏ لا تعودوا في الهبة، وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الوالد لولده جمعا بين هذا الحديث وحديث النعمان الماضي‏.‏

وقال الطحاوي‏:‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ لا يحل ‏"‏ لا يستلزم التحريم، وهو كقوله‏:‏ ‏"‏ لا تحل الصدقة لغني ‏"‏ وإنما معناه لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة‏.‏

قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ كالعائد في قيئه ‏"‏ وإن اقتضى التحريم لكون القيء حراما لكن الزيادة في الرواية الأخرى وهي قوله‏:‏ ‏"‏ كالكلب ‏"‏ تدل على عدم التحريم، لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب‏.‏

وتعقب باستبعاد ما تأوله ومنافرة سياق الأحاديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء المبالغة في الزجر كقوله‏:‏ ‏"‏ من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الذي يعود في هبته‏)‏ أي العائد في هبته إلى الموهوب، وهو كقوله تعالى‏.‏

(‏أو لتعودن في ملتنا‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كالكلب يرجع في قيئه‏)‏ هذا التمثيل وقع في طريق سعيد بن المسيب أيضا عند مسلم أخرجه من رواية أبي جعفر محمد الباقر عنه بلفظ ‏"‏ مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يرجع في قيئه فيأكله ‏"‏ وله في رواية بكير المذكورة ‏"‏ إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى بن قزعة‏)‏ بفتح القاف والزاي والمهملة، مكي قديم لم يخرج له غير البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن زيد بن أسلم‏)‏ سيأتي في آخر حديث في الهبة عن الحميدي ‏"‏ حدثنا سفيان سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم فقال‏:‏ سمعت أبي ‏"‏ فذكره مختصرا، ولمالك فيه إسناد آخر سيأتي في الجهاد عن نافع عن ابن عمر، وله فيه إسناد ثالث عن عمرو بن دينار عن ثابت الأحنف عن ابن عمر أخرجه ابن عبد البر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت عمر بن الخطاب‏)‏ زاد ابن المديني عن سفيان ‏"‏ على المنبر ‏"‏ وهي في ‏"‏ الموطآت للدار قطني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حملت على فرس‏)‏ زاد القعنبي في الموطأ ‏"‏ عتيق ‏"‏ والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، وهذا الفرس أخرج ابن سعد عن الواقدي بسنده عن سهل بن سعد في تسمية خيل النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ وأهدى تميم الداري له فرسا يقال له الورد فأعطاه عمر فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع ‏"‏ الحديث، فعرف بهذا تسميته وأصله، ولا يعارضه ما أخرجه مسلم ولم يسق لفظه وساقه أبو عوانة في مستخرجه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أن عمر حمل على فرس في سبيل الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ‏"‏ لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدق به فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره فيمن يحمله عليه فأشار به عليه فنسبت إليه العطية لكونه أمره بها‏.‏

قوله ‏(‏في سبيل الله‏)‏ ظاهره أنه حمله عليه حمل تمليك ليجاهد به إذ لو كان حمل تحبيس لم يجز بيعه، وقيل بلغ إلى حالة لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه، وهو مفتقر إلى ثبوت ذلك، ويدل على أنه تمليك قوله‏:‏ ‏"‏ العائد في هبته ‏"‏ ولو كان حبسا لقال في حبسه أو وقفه‏.‏

وعلى هذا فالمراد بسبيل الله الجهاد لا الوقف، فلا حجة فيه لمن أجاز بيع الموقوف إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأضاعه‏)‏ أي لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤونته وخدمته، وقيل أي لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر، ويؤيده رواية مسلم من طريق روح بن القاسم عن زيد بن أسلم ‏"‏ فوجده قد أضاعه وكان قليل المال ‏"‏ فأشار إلى علة ذلك وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تشتره‏)‏ سمى الشراء عودا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في مثل ذلك للمشتري، فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعا، وأشار إلى الرخص بقوله‏:‏ ‏"‏ وإن أعطاكه بدرهم ‏"‏ ويستفاد من قوله‏:‏ ‏"‏ وإن أعطاكه بدرهم ‏"‏ أن البائع كان قد ملكه ولو كان محبسا كما ادعاه من تقدم ذكره وجاز بيعه لكونه صار لا ينتفع به فيما حبس له لما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء ولو كان المشتري هو المحبس، والله أعلم‏.‏

وقد استشكله الإسماعيلي وقال‏:‏ إذا كان شرط الواقف ما تقدم ذكره في حديث ابن عمر في وقف عمر لا يباع أصله ولا يوهب فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب، وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه‏؟‏ قال‏:‏ فلعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المذكور فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضا أنه لو وجده مثلا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن العائد في صدقته إلخ‏)‏ حمل الجمهور هذا النهي في صورة الشراء على التنزيه، وحمله قوم على التحريم، قال القرطبي وغيره‏:‏ وهو الظاهر‏.‏

ثم الزجر المذكور مخصوص بالصورة المذكورة وما أشبهها، لا ما إذا رده إليه الميراث مثلا‏.‏

قال الطبري‏:‏ يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدا والموهوب ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك‏.‏

وأما ما عدا ذلك كالغني يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع لهؤلاء، قال‏:‏ ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة‏.‏

وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البر وكتمانه أرجح، وأجيب بأنه تعارض عنده المصلحتان - الكتمان وتبليغ الحكم الشرعي - فرجح الثاني فعمل به، وتعقب بأنه كان يمكن أن يقول‏:‏ حمل رجل على فرس مثلا، ولا يقول‏:‏ حملت، فيجمع بين المصلحتين‏.‏

والظاهر أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدا لصحة الحكم المذكور، لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرح بإضافة الحكم إلى نفسه، ويحتمل أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان العجب والرياء، أما من أمن من ذلك كعمر فلا‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ بَنِي صُهَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا فَقَالَ مَرْوَانُ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ قَالُوا ابْنُ عُمَرَ فَدَعَاهُ فَشَهِدَ لَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ كذا للجميع بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، ومناسبته لها أن الصحابة بعد ثبوت عطية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لصهيب لم يستفصلوا هل رجع أم لا‏؟‏ فدل على أن لا أثر للرجوع في الهبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن بني صهيب‏)‏ هو ابن سنان الرومي، وقد تقدم أصله في العرب في ‏"‏ باب شراء المملوك من الحربي ‏"‏ من كتاب البيوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ مولى بني جدعان ‏"‏ كذا في رواية الكشميهني، وللباقين ‏"‏ مولى ابن جدعان ‏"‏ وهي رواية الإسماعيلي من طريق أبي حاتم عن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري فيه، وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وأما صهيب فكان له من الولد ممن روى عنه حمزة وسعد وصالح وصيفي وعباد وعثمان ومحمد وحبيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال مروان‏)‏ هو ابن الحكم حيث كان أمير المدينة لمعاوية، وكان موت صهيب بالمدينة في أواخر خلافة علي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من يشهد لكما‏)‏ كذا فيه بالتثنية؛ وبقية القصة بصيغة الجمع، فيحمل على أن المتولي للدعوى بذلك منهم كانا اثنين ورضي الباقون بذلك فنسب إليهم تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة التثنية، على أن في رواية الإسماعيلي ‏"‏ فقال مروان من يشهد لكم ‏"‏ ولا إشكال فيه‏.‏

أجاب الكرماني بأن أقل الجمع اثنان عند بعضهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأعطى‏)‏ بفتح اللام هي لام القسم، كأنه أعطى الشهادة حكم القسم أو فيه قسم مقدر أو عبر عن الخبر بالشهادة والخبر يؤكد بالقسم كثيرا وإن كان السامع غير منكر، ويؤيد كونه خبرا أن مروان قضى لهم بشهادة ابن عمر وحده، ولو كانت شهادة حقيقة لاحتاج إلى شاهد آخر‏.‏

ودعوى ابن بطال أنه قضى لهم بشهادته ويمينهم فيه نظر، لأنه لم يذكر في الحديث، وقد استدل به بعض المتأخرين لقول بعض السلف كشريح إنه يكفي الشاهد الواحد إذا انضمت إليه قرينة تدل على صدقه، وترجم أبو داود في السنن ‏"‏ باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم ‏"‏ وساق قصة خزيمة بن ثابت في سبب تسميته ذا الشهادتين وهي مشهورة، والجمهور على أن ذلك خاص بخزيمة والله أعلم‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يكون مروان أعطى ذلك من يستحق عنده العطاء من مال الله، فإن كان النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه كان تنفيذا له، وإن لم يكن كان هو المنشئ للعطاء، قال‏:‏ وقد يكون ذلك خاصا بالفيء كما وقع في قصة أبي قتادة حيث قضى له بدعواه وشهادة من كان عنده السلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بيتين وحجرة‏)‏ ذكر عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار المدينة ‏"‏ أن بيت صهيب كان لأم سلمة فوهبته لصهيب، فلعلها فعلت ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو نسب إليها بطريق المجاز وكان في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه لصهيب، أو هو بيت آخر غير ما وقعت به الدعوى المذكورة‏.‏

*3*باب مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا جَعَلَكُمْ عُمَّارًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما قيل في العمرى والرقبى‏)‏ أي ما ورد في ذلك من الأحكام، ثبت للأصيلي وكريمة بسملة قبل الباب، والعمرى بضم المهملة وسكون الميم مع القصر، وحكي ضم الميم مع ضم أوله، وحكي فتح أوله مع السكون، مأخوذ من العمر، والرقبى بوزنها مأخوذة من المراقبة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية فيعطي الرجل الدار ويقول له‏:‏ أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك فقيل لها عمرى لذلك، وكذا قيل لها رقبى لأن كلا منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وكذا ورثته فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها لغة‏.‏

أما شرعا فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخذ، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك‏.‏

وذهب الجمهور إلى صحة العمرى إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة‏.‏

لكن ابن حزم قال بصحتها وهو شيخ الظاهرية‏.‏

ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقبة كسائر الهبات، حتى لو كان المعمر عبدا فأعتقه الموهوب له نفذ بخلاف الواهب، وقيل يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة وهو قول مالك والشافعي في القديم‏.‏

وهل يسلك به مسلك العارية أو الوقف‏؟‏ روايتان عند المالكية، وعن الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة وفي الرقبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة، وقول المصنف ‏"‏ أعمرته الدار فهي عمرى جعلتها له ‏"‏ أشار بذلك إلى أصلها، وأطلق الجعل لأنه يرى أنها تصير ملك الموهوب له كقول الجمهور، ولا يرى أنها عارية كما سيأتي تصريحه بذلك في آخر أبواب الهبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ استعمركم فيها جعلكم عمارا ‏"‏ هو تفسير أبي عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ وعليه يعتمد كثيرا‏.‏

وقال غيره‏:‏ استعمركم أطال أعماركم، وقيل معناه أذن لكم في عمارتها واستخراج موتكم منها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى‏)‏ هو ابن أبي كثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي سلمة عن جابر‏)‏ في رواية هشام عن يحيى ‏"‏ حدثني أبو سلمة سمعت جابر بن عبد الله ‏"‏ أخرجه مسلم، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له‏)‏ هو بفتح ‏"‏ أنها ‏"‏ أي قضى بأنها‏.‏

وفي رواية الزهري عن أبي سلمة عند مسلم ‏"‏ أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ‏"‏ هذا لفظه من طريق مالك عن الزهري، وله نحوه من طريق ابن جريج عن الزهري، وله من طريق الليث عنه‏:‏ فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه، ولم يذكر التعليل الذي في آخره، وله من طريق معمر عنه ‏"‏ إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك، فأما الذي قال‏:‏ ‏"‏ هي لك ما عشت ‏"‏ فإنها ترجع إلى صاحبها، قال معمر‏:‏ كان الزهري يفتي به، ولم يذكر التعليل أيضا، وبين من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري أن التعليل من قول أبي سلمة، وقد أوضحته في كتاب ‏"‏ المدرج ‏"‏ وأخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه ‏"‏ فيجتمع من هذه الروايات ثلاثة أحوال‏:‏ أحدها أن يقول‏:‏ ‏"‏ هي لك ولعقبك ‏"‏ فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه‏.‏

ثانيها أن يقول‏:‏ ‏"‏ هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلي ‏"‏ فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري، وبه قال أكثر العلماء ورجحه جماعة من الشافعية، والأصح عند أكثرهم لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد فألغي، وسأذكر الاحتجاج لذلك آخر الباب‏.‏

ثالثها أن يقول أعمرتكها ويطلق، فرواية أبي الزبير هذه تدل على أن حكمها حكم الأول وأنها لا ترجع إلى الواهب، وهو قول الشافعي في الجديد والجمهور‏.‏

وقال في القديم‏:‏ العقد باطل من أصله‏.‏

وعنه كقول مالك، وقيل القديم عن الشافعي كالجديد‏.‏

وقد روى النسائي أن قتادة حكى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك سأل الفقهاء عن هذه المسألة أعني صورة الإطلاق، فذكر له قتادة عن الحسن وغيره أنها جائزة، وذكر له حديث أبي هريرة بذلك، قال‏:‏ وذكر له عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال فقال الزهري‏:‏ إنما العمرى أي الجائزة إذا أعمر له ولعقبه من بعده، فإذا لم يجعل عقبه من بعده كان للذي يجعل شرطه‏.‏

قال قتادة واحتج الزهري بأن الخلفاء لا يقضون بها، فقال عطاء قضى بها عبد الملك بن مروان‏.‏